مذ لم أمُتْ، أصبحتُ فأرًا، وضربتُ أقرُضُ الوقتَ المضافَ، وأجعلُ كلَّ زاويةٍ مدىً، وأقشّرُ أغلفةَ الكُتبِ لأعلَقَ في مصيدةِ الخوفِ، أتوهُ بينَ أعمدةِ الكنائس الأثريّةِ وأنا أبحثُ عن وجهٍ أعرفه ولم يلتهمْه النسيانُ، أشدُّ فتاةً إلى فُحولتي وأنهِكُها حياةً، وأنظرُ للموتِ بعينيّ شبقي، وأحملُ هجراتٍ خبرتُ إيلامها جوازَ سفرٍ لجنونٍ بلا حدود، سيرتي الذاتيّةُ أسماؤهنَّ وأصواتُهنّ، ملامحُ الناجينَ من الأمسِ، وكلُّ ثانيةٍ عرفتْني بعدَ الصدفةِ.
وُلدتُ حينَ لم أمُتْ! أربعةُ أحجارٍ ضلّتْ دربَ السقوط، وأخطأتْ رأسي الذي تخلّص من كلّ ما هوَ قبل. حجرٌ سقطَ انكسارًا مع طفولةٍ لم أنتبهْ لها، حجرٌ ربطَ سماءَ نساءِ ما قبل الموتِ من أثدائهنّ وهوى، حجرٌ أخذ خرافاتِ الله وذكورتهِ وقصصِ جدّةٍ فلسطينيّةٍ هاربةٍ من هزيمةٍ ترفضُها وتصارعها بالتخاريف؛ وتَحطَّمَ، وحجرٌ سقطَ، فانتبهتُ لابتسامةٍ مكسورةٍ تقول لي: “يا أحمرَ شفاهي”.
خمسةُ أعوامٍ سادسهم طفلٌ لمْ أُنجبْهُ، رميتُه في القمامةِ، لا أعرف بأيّ أرضٍ حُرِقَ أو دُفِنَ أو أعيد تدويرُه على شكل ساعةٍ تذكّرني بأنّي لم أمُتْ!. الأوّلُ في بلادٍ لم أخترْها، الثاني في سجنٍ فتحَ بابَ الشمسِ من أنبوبِ مجارير، الثالثُ في حضنٍ علّمني ألّا أخسرَ، الرابعُ في الحضنِ الذي خسرَ دفئي، والخامسُ في نافذةِ الصحوةِ كيفَ نجوتُ، وكيفَ أسوقُ الموتَ إلى منفاهُ، وأرميهِ، وألقي في أذنيه شِعرًا مصهورًا في نارِ الحبّ ليمسحَ ذاكرتَه، ثم أقرُضُ أذنيه لكيلا يعرف غيره!.
مُذ لم أمتُ، بدأتُ أتذوّق الجمالَ، وأفتحُ بابَ الحربِ، فصلَ الخوف، وأغرقُ في كُرهِ البطولةِ أكثر، أخلعُ كلّ ما ظننتهُ يقينًا لصالحِ الحبِّ، إذ لا حقيقةَ في الإيمانِ، الإيمانُ عدوّ الحقيقةِ، والهويّةُ كلُّ شيء إلّا المكان والعلَم والعِرق والدين والجنس، وأنا مذ لم أمتْ أصبحتُ بلا هويّةٍ، ولا يعنيني كثيرًا أن أحمل أخرى أو تحملني! والحنينُ إلى ما لم تختره عبثٌ من مخلّفاتِ الديكتاتوريّةِ -أعرف أنّ هذه الكلمةَ موغلةٌ في المباشرةِ إلّا أنّني فتحتُ معاجمَ كلّ لغاتِ الأرضِ ولم أجد لها مقاربةً شعريّة!- البلادُ أيضًا، مع الزمن؛ تقمّصت الطاغية، وأوغلت في تشويهنا من الداخل، فأصبحنا نجمّل قبحها الذي اعتدناه حتّى صارَ أصلاً معياريًّا للجمال! هل هناك أسوأ من الحنين إلى ما لا يُحَنُّ إليه؟ وأن تجمّل ما لا تكفيه كلّ مصانع مساحيق التجميل ليكون جميلاً؟! البلادُ الأبويّة الشموليّة تلك.. أكرهها!.
مذ لم أمُتْ، وقبلها.. وحدَها، كانت أصدقَ من عرفتُ، وأدفأ من خبرتُ، ولو أنّها كانت تصبحُ قطعةَ ثلجٍ جارحةٍ حين تكتشفُ مشاغباتي مع أخريات، أعرفُها جيّدًا، أعرفُ كيفَ نضجتْ ثمارُها قبلَ موعدِ القطافِ، وكيفَ هرِمتْ في حضني عامينِ وهي تقرأُ ملامحي كخالقةٍ نادمةٍ على شامةٍ سقطتْ سهوًا، وتكاثرتْ حتّى صارتْ جيشًا من العيوب الخَلقيّة، وكيف آلمتِ الحربُ رحمَها، وأغلقَ الخسرانُ عليها بابه، وأنا، بكلّ خيبتي وخوفي ابتعدتُ لأنّني لم أرِدْ للموتِ أن يشمَتَ لحظةً ويقترب.
- “يأبى ابن الخيمةِ أن يعرفَ وطنًا”
أقولُ، ثم أستدركُ: كيف أكرّسُ صورةَ الوطنِ التي أرفضها على ما هي عليه، ما يمنعُ الوطنَ أن يكونَ متنقّلاً؟ يهرمُ، يترهّلُ، يبكي، يغضبُ، يَتركُ، يطعنُ، يهربُ، يغرقُ في البحرِ، ثمّ ينجو، ويعيدُ حكايةَ من لم يمتْ، ويصنعُ بطاقةً شخصيّةً مزوّرةً، ثم يأتي إليك، لتعانقه، وتتركه! ما أغبى الباحثَ حينَ يضلّ وحين يكسّر كلّ أثاث البيت أثناء بحثه عن نظّارته، وهي على عينيه!.
- إلّا أنّنا حتّى حين نملك وطنًا نسافرُ، خوفًا، بردًا، حبًّا، بحثًا، نسافرُ؛ لأنّ السفرَ فطرتُنا للحياة، “الطيور التي لا تهاجر/ تسافر، لا تستحقّ الأجنحة!”
أقول ما قيل، ثم أطيرُ كسربِ حمامٍ لكشّاش لا تُقبل شهادته، أرى المخيّمَ من فوق، يشبه خزانتي، كانت تقول عنها دائمًا “كأنّ قذيفةً نزلت بها”، أتذكّرُ، فأهبطُ سربَ جنونٍ فوقَ سرّتها، فتغرقُ، أطيرُ ولا أعلو، ألتصقُ بصدرها ونفَسِها، وأعرفُ أنّها الوحيدة التي تزفرُ أوكسجينًا خالصًا، وأنقُرُ جلدها قمحةً قمحةً، فأُتخمُ حُبًّا، كما لو أنّني ما متُّ قبلُ، ولم أقتل أولادي، ولم أرمِهم في الماء، والصحراءِ، وعلى أجسادِ الخيالِ، وفي أرحامِ الضرورة، كما لو كنتُ مئذنةً تغنّي أغنياتِ الحبِّ لإلهٍ بسيطٍ لا يلوّح بعصاهُ، ولا يمنُّ على المياهِ، وأكتبُ عن الموت، لا عن الحياة، فالحياةُ لا يكتَبُ عنها، الحياة.. تعاش!
وأعودُ أتذكَّرُ كيف رمينا تحيّة خاطفةً في دمشق، وكانَ صوتُ الحريّةِ أعلى من أن نتبادلَ أسماءنا، وكيفَ التقينا ثانيةً لنعلنَ جوعًا إراديًّا أمامَ أعتابِ عمّال القلق في عمّان، وكيف التقينا ثالثةً ثم افترقنا لساعتين، ثمّ التقينا صدفةً ولم نفترق بعدُ!
خطأ ما، في حساب الجاذبيّةِ وسرعةِ الرياحِ، ووزن الأحجار، وخطأ آخر في عدسةِ القنّاصِ، وثالث في إحداثيّاتِ قذيفةٍ، ورابع في بلدٍ لم يرحّب بشاعرٍ كما يليق، وخامس في أسوارِ السجنِ بحجم رأسي ينفذُ نحوَ الهروب، وسادس في شبَهٍ غير متعمّد على صورة جواز سفرٍ لصديقي جعلني أنتحل اسمه، وسابع وثامن وتاسع وعاشر أوصلني لفراشها، وأخطاءٌ كثيرةٌ جمعتْنا، حبُّنا ابن الأخطاءِ التي لو متُّ، لما حدثتْ!. حبّي ابن الخوف، وابن الأسماء الكثيرةِ التي حملتها: مارسيل، يزن، صلاح، عبد الرحمن، جهاد، ولا أذكر إن كان ثمّة غيرها، أعترف بخوفي الذي هو أصدق شعورٍ عرفته، وأصدق صديق رافقني لمدّة طويلةٍ دون شجارٍ أو قطيعة، وأنا لذلك لم أمُت، لو أنّني متُّ، لصرتُ بطلاً، وأنا لا أرى في البطولة شيئًا يستحقّ.
* نشر هذا النص في مجلة فسحة الثقافية في نيسان- أبريل 2016، وترجم إلى اللغة الألمانية ونشر في كتاب مشترك لمجموعة من الكتاب في ألمانيا باللغتين العربية والألمانية في أكتوبر 2016، كما حمل عنوان كتاب نثري صدر عام 2016.